
تقرير: منة سيد
في محطة الأوتوبيس وسط القاهرة، وقفت نشوى تمسك بأيدي أطفالها بينما تحدق في شاشة هاتفها بترقب. تتابع أخبار السودان، تقرأ عن المناطق التي استعادها الجيش، وتبحث عن أي إشارة تدلل أن الخرطوم أصبحت آمنة بالكامل. لم تعد تنتظر نهاية الحرب، فقط تنتظر تحرير مدينتها حتى تتمكن من العودة، رغم إدراكها للمخاطر.
“الحياة هنا صعبة” تقولها نشوى بينما تضغط على يد صغيرها المصاب بالتوحد، “هربت بأطفالي ولم أحصل على أي دعم، لا مال ولا عمل. لكن في السودان، حتى لو كان الوضع صعبًا، لن أكون وحدي… هناك عائلتي”.
قصة نشوى ليست استثناءً، بل تعكس واقع آلاف اللاجئين السودانيين في مصر، الذين يجدون أنفسهم أمام خيارين أحلاهما مر: البقاء في ظروف معيشية خانقة، أو العودة إلى وطن لم يعد كما كان، حيث تنتظرهم حياة محفوفة بالمخاطر. البعض لا يزال مترددًا، آخرون حسموا أمرهم رغم الخطر، بينما هناك من عادوا بالفعل… ليندموا!
في هذا التقرير، نروي قصص ثلاث سودانيين عند مفترق طرق، حيث لا يبدو أي طريق آمن، ولا أي قرار سهل، ورغم صعوبة القرار، اختاروا العودة، لأسبابٍ مختلفة.
نشوى.. انتظار العودة وسط شقاء الغربة
فرت نشوى من جحيم الحرب في السودان، سبتمبر 2023، بعد نحو أربعة أشهر من اندلاع القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. كانت الرحلة شاقة، خاصة لأم تصطحب طفلين، أحدهما مصاب بالتوحد. شجعها زوجها للجوء إلى مصر، خوفًا على حياتها وحياة أطفالهما، بينما بقي هو في السودان. لكنه لم يكن يعلم أن حياتهم لن تكون سهلة، وأن أسرته ستجد نفسها أمام معاناة مختلفة، تجعلهم يتطلعون إلى العودة حتى قبل أن تضع الحرب أوزارها.

تقول نشوى: “الحياة هنا صعبة بلا مصدر دخل. رغم حصولي على شهادة عليا، لم أتمكن من العثور على عمل، كما أنني لم أتلقَّ مساعدات من المفوضية، رغم كوني أمًا لطفل يعاني من التوحد وليس لي أي معيل. ومع ذلك، ترى المفوضية أنني لا أستحق الدعم”.
وإلى جانب الضغوط المالية والمعيشية، تعاني نشوى من الشعور بالغربة والوحدة، مما يجعلها تفضل العودة إلى وطنها، حتى لو كان مدمّرًا، على البقاء في بلد آمن بلا سند. قرارها محسوم، لكنها تترقب اللحظة المناسبة، قائلة: “الخرطوم لم تصبح آمنة بعد، لكن هناك بوادر انفراج… وقريبًا سأعود”.
في ظل هذه الظروف، يجد اللاجئون أنفسهم بين قلة فرص العمل وتراجع المساعدات، مما يجعل وضعهم أكثر هشاشة. وفقًا لورقة بحثية أعدتها دينا إيهاب، باحث مساعد في وحدة شؤون الشرق الأوسط، في سبتمبر 2024، تحت عنوان “ورقة سياسات حول اللاجئين في مصر: بين التحديات والفرص”، لا يمتلك سوى عدد قليل فقط من اللاجئين في مصر تصاريح عمل رسمية، بسبب الإجراءات البيروقراطية الطويلة، والتكاليف المرتفعة للحصول على التصريح، مما كان يدفع العديد منهم للعمل بشكل غير رسميأو البحث عن فرص غير مستقرة، أو انتظار المساعدات.
أقرأ أيضًا| مفوضية اللاجئين في مصر تعلن إيقاف جميع أنواع المساعدات الطبية
أما فيما يخص المساعدات، فإن المفوضية توضح: “أنه ليس لكل لاجئ مسجل الحق في الحصول على مساعدة نقدية بمجرد التسجيل فيها. وإنما يتم تقديم المساعدة النقدية للاجئين الأشد احتياجا بناءً على معايير محددة”. بينما سبق وأعلنت المفوضية أنها تعاني من نقصٍ في التمويل، الأمر الذي يسبب فجوة بين احتياجات مجتمعات اللاجئين والمساعدات التي تُقدم.

سارة.. في طريق العودة محملة بالأمل والألم
في ظل هذه الظروف المعيشية الصعبة، وبينما تترقب نشوى اللحظة التي تصبح فيها الخرطوم آمنة تمامًا لتعود، اختارت سارة وأسرتها العودة دون انتظار، رغم أن الخرطوم، مدينتها أيضًا. تحزم سارة أمتعتها استعدادًا للعودة إلى السودان برفقة والدتها وأخيها، تحمل معها مشاعر مختلطة بين الفرح والأمل من جهة، والألم والقلق من جهة أخرى. تقول: “منذ مغادرتنا السودان، أدركت كم أحب وطني، والآن أشعر بسعادة غامرة لأنني أستعد للعودة إليه. هناك، سنكافح من جديد لإعادة بناء حياتنا بين أهلنا، لكن في الوقت ذاته، يعتصرني الألم لما حل بأرضي من دمار. أخشى مواجهة ملامح الحزن التي غلّفت الوجوه، والتغيرات التي طالت شارعنا بين الدمار وفقدان الأحبة”.
بعد رحلة شاقة من الخرطوم استقرت أسرة سارة في محافظة الجيزة بمصر، في نوفمبر 2024، ولم يمضِ على إقامتهم سوى أربعة أشهر، قبل أن يتخذوا قرار العودة إلى السودان، مدفوعين بظروف معيشية قاسية بسبب عدم قدرتهم على الحصول على عمل ثابت وتحقيق استقرار مادي، تمامًا كما حدث مع نشوى. تقول سارة: “جئنا بحثًا عن الأمان، لكننا لم نحسب حساب الحياة دون دخل. فقدنا كل شيء في السودان، منزلنا، سيارتنا، وحتى المتجر الذي كان مصدر رزقنا. لم يكن لدينا شيء سوى الأمل في حياة آمنة، لكن تكاليف المعيشة هنا صعبة دون عمل ومصدر دخل ثابت. ورغم الدعم الذي تلقيناه مؤقتًا من أقاربنا في السعودية، إلا أن ذلك لم يكن كافيًا لمواجهة الأعباء المتزايدة”.
ومع استمرار المصاعب وانعدام الفرص، لم يكن أمام سارة وعائلتها خيار سوى العودة إلى السودان، رغم المخاطر. لم ينتظروا حتى رحلات العودة المجانية التي تنظمها بعض الجهات، وأبرزها رجال أعمال سودانيين، إذ تقول سارة: “الرحلات المجانية متوقفة حاليًا بسبب الأعداد الكبيرة المسجلة، لذا قررنا السفر على نفقتنا الخاصة عبر أبو سمبل إلى وادي حلفا، بتكلفة ألف جنيه مصري للفرد. فما دمنا لم نجد عملًا هنا، فالأولى أن نواجه الظروف في بلدنا”.
أقرأ أيضًا|منظمات إغاثية وإنسانية لدعم اللاجئين السودانيين في مصر
وقبل أن تنطق بكلماتها الأخيرة، صمتت سارة للحظات، كأنها تسترجع ذكريات الفترة القصيرة التي عاشتها في مصر، ثم قالت: “مصر جميلة وأهلها طيبين.. جيراننا في العمارة علاقتنا معهم جيدة ويحبوننا، لكن كنت أتمنى أن أزورها في ظروف أخرى غير مجبرة وأن أستمتع فيها”. وتابعت: “أعرف أننا سنواجه دمار هائل في السودان وسنتعب كثيرًا، لكنني لا أريد العيش يوم آخر خارج وطني، لذا فإننا عائدون”.
لكن العودة لا تعني الرجوع إلى الخرطوم، التي ما زالت الأوضاع فيها غير مستقرة وغير آمنة كليًا، بل ستنزح العائلة إلى إحدى المناطق الآمنة في السودان، حيث يقيم أقاربهم، أملًا في عودة الأمان إلى الخرطوم قريبًا.
فرغم التقدم الذي يحرزه الجيش السوداني، إلا أنه حتى وقت كتابة التقرير والحديث مع الحالات، لا يزال الوضع في السودان “كارثي” كما وصفته الأمم المتحدة، ولا تزال قوات الدعم السريع تسيطر على معظم إقليم دارفور وأجزاء من الجنوب ومناطق في الخرطوم، بينما يفرض الجيش سيطرته على الشمال والشرق، وتمكن مؤخرًا من استعادة القصر الجمهوري وأجزاء واسعة من الخرطوم ووسط البلاد. ومع ذلك، لا تزال الأوضاع الأمنية متدهورة، وما زالت وفيات المدنيين مستمرة بسبب الاشتباكات الدائرة، فيما تظل العودة إلى الوطن محفوفة بالمخاطر بالنسبة للكثير من النازحين واللاجئين العائدين.
وقد كان هذا هو الحال بالنسبة لعواد وعائلته، الذين عادوا إلى مدينتهم التي سيطرت عليها قوات الدعم السريع لمدة عام، ليواجهوا واقعًا قاسيًا في ظل الدمار والفوضى الأمنية.
عواد: فضَل الرحيل على الترحيل.. وندم!
في ولاية الجزيرة، التي كانت تحت سيطرة الدعم السريع، تحديدًا في مدينة ود مدني، عاد عواد وعائلته إلى منزلهم في يناير 2025، ليواجهوا واقعًا صادمًا. يقول: “لم نكن نعلم إلى أين سنعود أثناء رحلتنا، فقد كانت مدينتنا لا تزال تحت سيطرة قوات الدعم السريع، لكن في الطريق، علمنا أن الجيش حررها، فعدنا إلى منزلنا لنجده قد دُمّر وسُرق محتواه، واكتشفنا أن الأوضاع في المدينة باتت شديدة الصعوبة”.
يتحدث عواد عن التحديات التي تعيشها أسرته والعائدين إلى ود مدني، قائلاً: “الحياة هنا لم تتوقف، لكنها في غاية الصعوبة، فالبنية التحتية مدمرة، والكهرباء منقطعة، والأمراض منتشرة. حتى أسرتي تعاني حاليًا من الملاريا بسبب البعوض، في حين أن الخدمات الصحية تكاد تكون معطلة تمامًا”.
قبل ذلك بسبعة أشهر، وتحديدًا في يونيو 2024، كان خروج عواد وعائلته المكونة من 14 فردا بينهم طفلان من السودان، في رحلة تهريب شاقة نحو مصر، حيث استقرت العائلة في أسوان، يستعيد تلك التجربة قائلاً: “كانت رحلتنا في غاية الصعوبة، رأينا الموت بأعيننا، لكننا قلنا كله يهون من أجل الأمن والأمان، وعندما لم نجد هذا الأمان قررنا العودة”.
يرجع عواد سبب مغادرته هو وعائلته لمصر إلى الخوف من ترحيلنا، قائلًا: “رغم أن أوضاعنا المعيشية في مصر كانت جيدة نسبيًا، لأننا بعنا كل ما نملك في السودان لتأمين احتياجاتنا، إلا أن الوضع الأمني كان المشكلة الأكبر. بدأنا نتعرض لمضايقات من بعض الجيران، متأثرين بتصرفات مجموعة من السودانيين التي أساءت لصورتنا، ما أدى إلى حدوث تضييقات علينا. بتنا نواجه مخاطر الاحتجاز والترحيل القسري حتى مع امتلاكنا بطاقة المفوضية، وهو ما حدث بالفعل لأحد أقاربي”.
يتابع: “بسبب الضغوط الأمنية باتت تحركاتنا اليومية صعبة للغاية، حتى لقضاء أبسط الاحتياجات. ومع تزايد مخاوفنا من الترحيل قررنا العودة إلى السودان. قلنا: إن كانت المعاناة حتمية، فالأجدر أن نواجهها في وطننا. ورغم ندمي على هذه الخطوة بسبب الأوضاع القاسية التي نعيشها الآن في السودان، إلا أنني لم أجد خيارًا آخر سوى العودة.”
إضافة إلى الظروف المادية والمعيشية الصعبة التي يعاني منها اللاجئين السودانيين في مصر والتي كانت أحد أهم أسباب عودتهم إلى السودان قبل انتهاء الحرب، يعد ترحيل السودانيين سبب آخر لتركهم مصر، حيث بدأت أولى موجات الترحيل أواخر أغسطس 2023 من خلال حملة واسعة في جميع أنحاء مصر، استهدفت ذوي البشرة السمراء عبر مداهمات لمناطق إقامة الجاليات الإفريقية وعمليات توقيف في الشوارع والمواصلات العامة، بحثا عن المتسللين والمقيمين غير النظاميين، وفقا لتقارير صحفية.
وقد واجه المحتجزون خيارين: “إما دفع ألف دولار لتقنين أوضاعهم، وهو ما يتطلب إجراءات طويلة تشمل موافقات أمنية متعددة، ورسومًا مالية، ووجود ضامن مصري، مع بقائهم قيد الاحتجاز طوال هذه العملية، أو الترحيل القسري، حيث يتم إصدار وثيقة سفر عاجلة من سفارة بلادهم، وإجبارهم على التوقيع على استمارات تُوصف بأنها (عودة طوعية)”. وفقا لتقرير أصدره مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، هو ما دفع عواد وعائلته إلى مغادرة مصر، خوفًا من أن يواجهوا المصير ذاته.
وقد سمحت الحكومة المصرية للاجئين المقيمين في مصر بصورة غير نظامية بتوفيق أوضاعهم وتقنين إقامتهم، بدءا من مطلع يناير 2024، بشرط وجود مستضيف مصري، وسداد مصروفات إدارية تعادل 1000 دولار، تودع بحساب مخصص للإدارة العامة للجوازات والهجرة والجنسية التابعة لـ وزارة الداخلية، وفقا لقرار رئيس مجلس الوزراء رقم 3326 لسنة 2023.
يهدف قرار الحكومة إلى إتاحة الفرصة للاجئين وطالبي اللجوء والأجانب لتقنين أوضاعهم،. ويحقق التوازن بين الحفاظ على الأمن القومي ومراعاة حقوق الأفراد المقيمين بشكل غير قانوني، وتجنب أي إجراءات قانونية قد تُتخذ بحقهم إذا استمرت إقامتهم بصورة غير نظامية.
وقد مددت الحكومة مدة سريان القرار لأكثر من مرة، كان آخرها سبتمبر 2024، إذ وافق مجلس الوزراء على مشروع قرار يقضي بمد فترة توفيق أوضاع الأجانب المقيمين في مصر بصورة غير شرعية لمدة عام إضافي.
من مُرٍ إلى مُر
منذ اندلاع الحرب في السودان في 15 أبريل 2023، شهدت مصر تدفقًا كبيرًا للاجئين السودانيين الفارين من العنف والدمار في بلادهم، وأصبحت أكبر دولة مستضيفة لهم. ورغم تباين الأرقام إلا أنه وفقًا لتقارير حكومية مصرية، تجاوز عدد السودانيين الذين دخلوا مصر منذ بدء الحرب 1.2 مليون شخص. كما شهدت مصر زيادة 504% في عدد اللاجئين السودانيين بين 31 مارس 2023 (قبل أزمة السودان الأخيرة) و31 مايو 2024. فيما أشارت المفوضية إلى أن إجمالي عدد اللاجئين السودانيين المسجلين لديها في مصر حتى مايو 2024، بلغ 367.147 شخصًا. وأن معظمهم قادمون من الخرطوم، مما يعكس تأثير الصراع الدائر هناك.
ورغم استمرار النزاع في السودان، بدأ عشرات الآلاف من السودانيين العودة إلى بلادهم بعد إعادة سيطرة الجيش عليها عبر المنافذ الحدودية، لا سيما معبر “أشكيت” الحدودي.
وذكرت وكالة السودان للأنباء نقلا عن مصدر داخل المعبر، أن عدد العائدين خلال أغسطس 2024 بلغ قرابة 8 آلاف شخص، وارتفع العدد خلال سبتمبر إلى قرابة 12 ألفا و600 شخص. وقد نشطت عدة مبادرات للعودة الطوعية إلى السودان، كان أحدها “راجعين لبلد الطيبين”، التي أطلقها محمد سليمان في مايو 2024، والتي تساعد غير القادرين على العودة مجانًا، من خلال تبرعات القادرين ورجال الأعمال السودانيين.
وبالحديث عن أعداد العائدين إلى السودان، يقول محمد سليمان مؤسس المبادرة لـ “المهاجر”: “منذ بداية عملنا، شهدنا تدفق أعداد كبيرة من العائدين إلى السودان، وقد بات معبر أشكيت في حلفا يسجل أكثر من 50 ألف شخص شهريًا يعودون عبر المبادرة والمبادرات الأخرى التي تفرعت منها، ومع ذلك، لا تزال الأعداد في ازدياد. لا أبالغ إذا قلت إن إجمالي العائدين تجاوز 600 ألف شخص. ونلاحظ أن وتيرة العودة تتسارع بشكل خاص في الأشهر التي يتم فيها تحرير بعض المناطق على يد الجيش السوداني”.
تعكس هذه العودة أسبابًا متنوعة، بينها صعوبة الأوضاع المعيشية في مصر، وارتفاع تكلفة الحياة، ومحدودية فرص العمل، إضافة إلى الرغبة في لمّ شمل العائلات، والخوف من الترحيل. إلا أن العودة ما زالت محفوفة بالمخاطر، نظرًا لاستمرار تدهور الوضع الأمني في البلاد.
ففي الداخل السوداني، تتفاقم الأوضاع الإنسانية بشكل حاد، وسط استمرار المعارك بين الأطراف المتنازعة، إذ يعاني الملايين من نقص الغذاء والمياه، ويتفاقم انتشار فقر الدم، والتهاب الكبد، والعمى الليلي، والملاريا نتيجة النقص الحاد في الأدوية داخل المرافق الصحية المحدودة التي لا تزال تعمل، وقد أوضحت المديرة التنفيذية لليونيسف كاثرين راسل، حجم الأزمة في السودان، في مارس 2025، قائلة: إن الصراع في السودان على مدار قرابة عامين أنتج “أكبر أزمة إنسانية وأكثرها تدميرًا في العالم”. فيما أكدت الأمم المتحدة أن قرابة ثلثي سكان السودان في حاجة إلى مساعدات طارئة.
في ظل هذه الأوضاع الإنسانية المتدهورة داخل السودان، يجد النازحون والعائدون أنفسهم أمام واقع أكثر قسوة، حيث لا توفر العودة إلى الوطن ملاذًا آمنًا من الأزمة المتفاقمة. يشرح دكتور جهاد مشامون، الباحث والمحلل السياسي المتخصص في الشأن السوداني، لـ “المهاجر”، قائلاً: “حتى لو عاد الناس، للأسف، لن يجدوا شيئًا يعودون إليه سوى انعدام الأمن. قوات الدعم السريع تستخدم الطائرات المسيّرة، والمجرمون الذين فرّوا من السجون بمساعدتها منذ بداية الصراع لا يزالون طلقاء، كما أنه لا توجد مصادر دخل تضمن لهم العيش”.
يضيف: “وفي حين يتجه بعض العائدين إلى مدن بعيدة عن مناطق النزاع، مثل شمال وشرق السودان، إلا أنهم يواجهون تحديات كبيرة هناك، خاصة في بورتسودان، حيث ترتفع تكاليف الإيجار بشكل كبير، وتنتشر الأمراض، بالإضافة إلى المعاناة من انقطاع الكهرباء بشكل متكرر وعدم استقرارها، كل ذلك يجعل العودة إلى السودان في الوقت الحالي خيارًا غير جيد”.
وتبقى كلمة عواد “إن كانت المعاناة حتمية، فالأجدر أن نواجهها في وطننا” من الكلمات الصادقة التي تلخص حال السودانيين، حيث تختزل مرارة الواقع وصدق الانتماء، فيمكن القول إن قرار السودانيين بالعودة إلى وطنهم رغم لهيب الحرب لم يكن خيارًا سهلًا أو نابعًا من تجاهل للمخاطر؛ بل كان استجابة لإحساس عميق بأن المعاناة في كنف الوطن، وإن كانت قاسية وتبعث على الندم أحيانًا، تبقى أهون وأكثر احتمالًا من قسوة الغربة وشعور الاقتلاع. هذه العودة، بكل ما تحمله من ألم وتحديات، تجسد قوة الروح الإنسانية التي تسعى للتماسك في وجه أصعب الظروف، وتؤكد أن الوطن يظل الملاذ الأخير، حتى وإن كان جريحًا.