
تقرير: سلمى نصر الدين
“بسبب عدم ردّ المفوضية فكّرت أنتحر، حاولت مرتين لكن فشلت، آخر محاولة وضعتُ سمّ فئران في اللبن لابنتي ولي في العصير، لكي نموت ونرتاح من كل شيء، بس ما قدرت، خائفة من العودة للسودان، الجيش سيعتقلني، وهنا أنا غير مرتاحة نهائيًا” كانت تلك كلمات سيدة (اسم مستعار)، طالبة لجوء سودانية وصلت مصر في مايو/أيار 2024، وتواجه تهديدًا وابتزازًا، رفضت المفوضية مساعدتها في اتخاذ إجراءات قانونية لحمايتها.
قبل مجيء سيدة إلى مصر، اعتقلتها ميليشيا الدعم السريع هي وزوجها ـ باتهامات ملفقة وبتحريض من أحد زملاء زوجها في العمل، والتابع لأفراد الدعم السريع ـ. تعرّضت سيدة داخل المعتقل للضرب والاغتصاب أمام زوجها على مدار 4 أيام، فيما عُذّب هو بآلات حادّة. ترك التعذيب آثارًا على جسديهما وصحتهما النفسية، وخلال اعتقالها أُجبرت على توقيع أوراق تعترف فيها بأنها ترشد قوات الدعم السريع عن بيوت ضباط الجيش السوداني، إضافة إلى عملها كمهربة أموال خارج السودان.
تمكّنت سيدة وزوجها من الفرار من المعتقل، إلا أن قوات الدعم السريع عادت واعتقلت الزوج مجددًا، في حين تمكّنت الزوجة، وكانت حينها حاملًا في ابنتها، من الفرار إلى مصر. غير أن رحلتها إلى الأمان لم تكتمل، إذ واجهت تهديدًا وابتزازًا من أحد زملاء زوجها في العمل، الذي يمتلك صورًا ومقاطع فيديو توثّق جرائم الاغتصاب التي تعرّضت لها داخل المعتقل. ويهددها بإرسال المواد المصوّرة إلى أسرتها في حال رفضت تنفيذ أوامره. علاوة على تهديدها بتسليم اعترافاتها الملفقة إلى الجيش السوداني.
سيدة واحدة من بين 925 ألف لاجئ ولاجئ/ة وطالب/ة لجوء في مصر، وفقًا لبيانات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. ويواجه هؤلاء تأخرًا ملحوظًا في الرد من المفوضية والمنظمات الشريكة لها، البالغ عددها 12 منظمة، وهو ما يتركهم عرضة لمخاطر أمنية وصحية وغيرها من التهديدات.
استغاثات متكررة بلا إجابة
وفقا لاتفاقية جنيف 1951 الخاصة بشؤون اللاجئين والبروتوكول الملحق بها 1967 تلتزم مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بتقديم مجموعة من الخدمات إلى اللاجئين، وتتعاقد المفوضية مع بعض المنظمات والمؤسسات لتقديم الخدمات الأساسية التي يحتاجونها، وتشمل: خدمات الصحة، والتعليم، والحماية، والصحة النفسية، والدعم القانوني، إلى جانب الخدمات الأساسية التي تتولاها المفوضية مثل تسجيل طلبات اللجوء، وتحديد وضع اللاجئ، وتقديم الحماية القانونية.
توفر مفوضية اللاجئين ميزانيتها واحتياجاتها المادية من خلال مساهمات ومنح الدول والمؤسسات المانحة والأفراد، وتعد الولايات المتحدة هي أكبر مساهم في تمويل عمليات المفوضية، وبحسب الموقع الرسمي لمفوضية اللاجئين، فإنها تحتاج ميزانية لتنفيذ عملياتها في مصر خلال عام 2025 تصل إلى 137 مليون و700 ألف دولار أمريكي، ولم يتم تغطية سوى 25% فقط من تلك المخصصات.
تتوزع تلك المخصصات المالية على مجموعة من البرامج والمجالات التمكينية وهي: إعادة التوطين والمسارات التكميلية، الاندماج الاقتصادي، العنف القائم على النوع الاجتماعي، تحديد صفة لاجئ، الإجراءات والعمليات، حماية الطفولة، التعليم، الرعاية الصحية، تمكين المرأة، الرفاه والاحتياجات الأساسية، الحماية والوصول إلى العدالة، والعودة الطوعية.
ومع نهاية مارس 2025 أعلنت المفوضية السامية لشئون اللاجئين في مصر عن إيقاف جميع برامج الرعاية الصحية ما عدا الحالات الطارئة بسبب نقص التمويل، ما يهدد قرابة 20 ألف لاجئ في مصر معظمهم من السودانيين.
بحسب استبيان أجرته معدّة التقرير، وشارك فيه نحو 500 لاجئ/ة وطالب/ة لجوء في مصر، أفاد معظم المستجوبين بأنهم واجهوا مشكلة في تأخر الرد من جانب المفوضية والمنظمات الشريكة. وأشار العديد منهم إلى أن الانتظار على الهاتف قد يمتد لساعتين أو أكثر، بينما ذكر بعضهم أنهم حاولوا التواصل لمدة وصلت إلى ستة أشهر دون تلقي أي رد، في حين لم يتم الرد على آخرين مطلقًا. وقد أوضح 78% من المشاركين أن المكالمات التي أجروها كانت تتعلق بحالات طارئة.
حصلت سيدة على بطاقة طالب لجوء في سبتمبر/أيلول 2024. ومنذ ذلك الحين وهي تحاول الاتصال بالمفوضية، فتجد في بعض المرات الخط مشغولًا، وفي مرات أخرى لا يتم الرد، أو يُفتح الخط دون تفاعل حتى ينتهي الرصيد المخصص للمكالمات. وكانت كل تلك المحاولات بهدف طلب دعم قانوني للإبلاغ عن التهديد والابتزاز اللذين تتعرض لهما.
وفي 18 مارس/آذار 2025، عاودت الاتصال والتواصل مع المفوضية، وأبلغتهم بأنها تتعرض لتهديد من نفس الشخص باختطاف ابنتها، إلى جانب تعرضها للابتزاز. لكن المفوضية ردّت بأن هذا النوع من القضايا لا يندرج ضمن مسؤولياتها، وطُلب منها التوجه إلى قسم الشرطة وتحرير محضر رسمي.
تستنكر سيدة، وهي تبكي، ردّ المفوضية قائلة: “إذا كانوا غير قادرين على توفير الحماية، فلماذا يعملون؟” وتضيف لـ”المهاجر”: إن استمرار التهديد لها ولطفلتها، في ظل غياب أي دعم قانوني أو حماية، اضطرّها إلى تغيير مكان إقامتها أكثر من مرة، كما تعترف بأنها حاولت الانتحار مرتين.
بطاقة اللجوء لا تحمي
لم يختلف وضع ملاذ (اسم مستعار)، طالبة لجوء سودانية، عن سيدة. إذ تواصلت مع عدة منظمات للحصول على مساعدات مادية ورعاية صحية، كونها تعاني من أمراض في الغدة الدرقية، وتحتاج إلى فحوصات شهرية، فضلًا عن معاناتها من آلام في الأسنان ومشكلات في العيون (الرمد). لكنها، كما تقول، لم تتلقَّ أي رد. وحين جاء الرد، كان بطيئًا ودون جدوى.
تذكر ملاذ أنها اتصلت بمنظمة كاريتاس عدة مرات قبل فضّ الشراكة مع المفوضية، وتم الرد عليها بعد عدة أشهر لتحديد موعد تقييم في أغسطس/آب 2024، وأُبلغت أنها ستُدرج على قائمة الانتظار للحصول على المساعدة المالية المقدَّمة للاجئين. لكنها تؤكد أنه حتى لحظة كتابة الواقعة، لم تُدرس حالتها. وعندما أعادت التواصل مرة أخرى، قيل لها إنها سبق أن حصلت على موعد في أغسطس، وأن عليها الانتظار.
تقول ملاذ لـ”المهاجر”: انتظرتُ عدة أشهر حتى مطلع العام الجديد، ثم انتهى تعاقد كاريتاس مع مفوضية اللاجئين، وتولت منظمة مايندست مهمة تقييم الحالات. وفي فبراير/شباط 2025، وصلني عبر الهاتف إشعارٌ برسالة قصيرة تفيد بأنه سيتم دراسة حالتي خلال ثلاثة أشهر.
وفي حالة أخرى، تعرّض شقيق ملاذ (اسم مستعار) للاحتجاز في قسم شرطة بالقاهرة مطلع فبراير/شباط 2025، رغم امتلاكه بطاقة “ملتمس لجوء” صادرة عن المفوضية، لكنه لم يكن يحمله وقت تواجده في الشارع وقت القبض عليهتقول ملاذ إنها أبلغت منظمتين هما سانت أندروز والمؤسسة المصرية لحقوق اللاجئين وقدّمت كل ما لديها من مستندات، لكنها لم تتلقَّ أي مساعدة، في ظل استمرار ضبط شقيقها نتيجة عدم حمله إقامة سارية وبعد أسابيع من التجاهل، تلقّت اتصالًا من القسم يطلب منها حجز تذكرة عودة لشقيقها، وبالفعل تم ترحيله إلى السودان في نهاية فبراير/شباط الماضي.
أفاد 8 من كل 10 مشاركين في الاستبيان أن الخدمات التي اتصلوا من أجلها كانت تتعلق بحالات طارئة، وذكر أغلبهم أنهم تواصلوا مع أكثر من منظمة ولكن دون جدوى.
هذا التأخر “يضرب الحماية في مقتل”
يعلّق أشرف ميلاد، الخبير في المفوضية الإفريقية لحقوق الإنسان، على رفض مفوضية اللاجئين تقديم الدعم القانوني لسيدة، قائلًا إنّ من المفترض أن هناك قسمًا مخصصًا لتلقي شكاوى العنف القائم على النوع الاجتماعي، إلى جانب بريد إلكتروني مُخصص لهذا النوع من البلاغات. ويؤكد أن قضايا العنف المبني على النوع تُعد من الحالات التي تُحرّك المفوضية عادة لتقديم المساعدة القانونية لأصحابها.
ويرى ميلاد أن إحجام المفوضية عن التعامل مع شكوى سيدة قد يعود لعدة أسباب، منها: إهمال الموظف المسؤول عن مراجعة الشكاوى وعدم التحقق منها بدقة، أو الافتراض المسبق بأن البلاغ يندرج ضمن الشكاوى المتكررة التي تهدف – في نظر بعض الموظفين – إلى تسريع عملية إعادة التوطين، وهو ما قد يؤدي إلى تجاهلها دون تمحيص.
ويضيف في حديثه لـ”المهاجر” أن للمفوضية معايير محددة لتحديد الحالات التي تستحق الدعم القانوني المباشر، وفي حال لم تستوفِ الحالة هذه المعايير، تُحال إلى إحدى المنظمات الشريكة مثل “المحامون المتحدون” أو “المؤسسة المصرية لدعم اللاجئين”.
يتفق ذلك مع ما أظهرته نتائج الاستبيان الذي شارك فيه نحو 500 لاجئ ولاجئة وطالب وطالبة لجوء في مصر، حيث أكد معظم المشاركين أنهم واجهوا تأخرًا في الرد من قبل المفوضية أو منظمات الشركاء. وأشار كثيرون إلى أنهم حاولوا التواصل مرارًا دون جدوى، إذ كانت خطوط الاتصال إما مشغولة، أو تُفتح دون تفاعل حتى ينفد الرصيد. وفي بعض الحالات، استمر غياب الرد لأشهر رغم أن 78% من الاتصالات كانت تتعلق بحالات طارئة.
ويُعزى هذا التدهور في الاستجابة إلى الضغوط المتزايدة التي تواجهها المفوضية منذ اندلاع الصراع في السودان في 15 أبريل/نيسان 2023، والذي تسبب في تدفّق نحو 1.5 مليون سوداني إلى الأراضي المصرية. ويُشكّل السودانيون الآن نحو شخص من كل سبعة من إجمالي اللاجئين وطالبي اللجوء المسجّلين لدى المفوضية في مصر.
يؤكد ميلاد أن هذا التأخر “يضرب الحماية في مقتل”، لافتًا إلى أن كثيرًا من الحالات التي تُبلغ المفوضية تحتاج إلى تدخل فوري، سواء لمواجهة خطر ترحيل أو أزمة صحية أو حماية قانونية عاجلة.
وتتفق شهادات المستجيبين في الاستبيان مع ذلك، إذ أشار عدد منهم إلى محاولات الاتصال للحصول على تجديد بطاقة اللجوء، أو الرعاية الصحية، أو لحالات تهديد بالقتل، أو التعرّض للاغتصاب والتعذيب الجسدي، أو الطرد من السكن أو الحبس.
تُظهر هذه الشهادات أن نظام حماية اللاجئين في مصر يعاني من مشكلات كبيرة في سرعة الاستجابة، خاصة مع تزايد أعداد القادمين من مناطق النزاع مثل سوريا والسودان.
لا تحتاج سيدة إلى حماية قانونية فقط، بل إلى دعم مادي يضمن لها الحد الأدنى من الحياة الكريمة، خاصة بعد أن اضطرت للتوقف عن العمل في تنظيف المنازل بعد ولادة طفلتها، وفقدت مصدر دخلها الوحيد. أما ملاذ، فتعاني من أمراض مزمنة وتكافح لتأمين تعليم لأطفالها الثلاثة، لكنها لم تتلقَّ أي استجابة تضمن لها أو لأبنائها الوصول إلى الخدمات الأساسية.
ورغم أن المفوضية والمنظمات الشريكة تقدم خدمات في مجالات الصحة والقانون والتعليم، إلا أن التأخر في الرد، وتحويل الحالات بين جهات متعددة دون تحمّل حقيقي للمسؤولية، يعرض آلاف اللاجئين واللاجئات لمخاطر تهدد حياتهم وتضعف ثقتهم في الجهات المسؤولة عن حمايتهم.
تجسّد حالتا سيدة وملاذ واقعًا أوسع تعيشه آلاف الأسر اللاجئة في مصر، ممن لا تزال احتياجاتهم الأساسية مُعلّقة على خطوط هاتفية لا تُجيب، ونظام حماية لا ينجح في الوفاء بأبسط وعوده.